عدم الاحساس في شهر رمضان من علامات القسوة
الشـيخ عبد الله القرعـاوي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
عباد الله:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن قسوة القلب إنما تليّن بالإيمان بالله، فبذكر الله ترق الأفئدة، وبالعمل الصالح تخشع القلوب لخالقها وتلِين القلوب وتذل لبارئها قال تعالى: -(الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ*الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ)- [الرعد/28-29].
عباد الله:
إن قسوة القلب داء قاتل، ووباء فاتك، فالقلب القاسي مرتع للشيطان، بعيد عن الرحمن، معرض عن الحق، سريع إلى الفسق، ولقد نادى الله المؤمنين نداء يأخذ بالألباب، ويهز المشاعر فقال سبحانه: -(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)- [الحديد/16].
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "والله ما بين إيماننا وبين أن خاطبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين".
وانظر إلى لفتة بديعة وإشارة لطيفة وفائدة قيمة بعد هذه الآية مباشرة لقوله سبحانه: -(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)- [الحديد/17]، وذلك أن الأرض قد تجدب فيقل ماؤها ويذهب بهاؤها، فإذا جاء المطر أزهرت وأثمرت وأورقت وأينعت و-(اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ)- [الحج/5]، كذلك القلب قد يتكدر صفوه ويقل خشوعه ويفتر خضوعه، ولكن إذا سقي بماء القرآن وأسعف برحيق الهدى وصقل بعبير الإيمان ذهبت قسوته وعادت له رقته.
إذا خشع القلب خشعت الجوارح، وإذا قسا قست الجوارح، وإذا صلح صلحت الجوارح، وإذا فسد فسد معه كل شيء، يقول صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ».
ولقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من قلب لا يخشع.
عباد الله:
بعض القلوب أشد قسوة من الحجارة، وأعظم جمودا من الصخر الصماء قال عز وجل: -(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)- [البقرة/74].
عباد الله:
إن قرب المرء من ربه بقدر حياة الإيمان في قلبه، وإن المتأمل لأحول الناس يجد قلوبا قاسية لا يردها إيمان، ولا تنفعها عبرة، ولا تستفيد من أوقات شريفة كشهر رمضان، ولا يؤثر فيها سماع القرآن، قست وتحجرت وغلظت وجفت، وأعرضت ونبت، وتاهت عن الحق، وعميت عن الدرب -( فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)- [الحج /46].
وإن لقسوة القلب أسبابا عديدة وعوامل كثيرة فمن أسباب قسوة القلب:
هجر القرآن الكريم: يقول صلى الله عليه وسلم: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا تَغْلُوا فِيهِ وَلَا تَجْفُوا عَنْهُ وَلَا تَأْكُلُوا بِهِ وَلَا تَسْتَكْثِرُوا بِهِ».
وهجر القرآن الكريم أنواع: هجر التلاوة، وهجر التدبر، وهجر العمل به، وهجر الاستشفاع به، وهجر التحاكم إليه، -(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا)- [الفرقان/30].
فليس للقلب أنفع دواء من القرآن الكريم قال تعالى: -(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)- [الزمر/23].
ولما أخذ الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم هذا الكتاب بقوة، وقرؤوه وتدبروه وعملوا بمقضتاه، أصبح لبيوتهم دوي كدوي النحل، بالقرآن أثمر في حياتهم، قويت به الهمم وعظمت به العزائم وزكت به النفوس وصفت به الأفئدة ورقَّت به القلوب فلم يكن للقراءة على الأموات ولا لزينة على الرفوف.
ومنها: التهاون بالذنوب ولكن المؤمن إذا قارف ذنبا أو ارتب معصية يسارع بالتوبة ويبادر بالاستغفار وقد ذكر الله تعالى من صفات المتقين: -(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)- [آل عمران/135]، فالتهاون بالذنوب سبب أعظم لقسوة القلوب، يقول صلى الله عليه وسلم: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ....» الحديث.
فكثير من القلوب استمرأت الذنوب، واستهانت بالمعاصي فقل إنكارها وضعف إيمانها فتلاشت حلاوة الإيمان وضعفت غيرتها للرحمن.
ومن أسباب قسوة القلب: التعلق بالدنيا فبعض من الناس جل تفكيرهم بالدنيا وأغلب حياتهم معها، ينامون على حب الدنيا والتفكير فيها، ويصبحون على ذلك كأنما خلقوا لها، مجالسهم في الحديث عنها وغضبهم ورضاهم لها، قال صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة» أي هلك طالبها الحريص عليها وعلى جمعها القائم على حفظها حتى غدا عبدا لها.
ومن أسباب قسوة القلب: كثرة الهزل والضحك، فالضحك من علامات الأنس وأسباب السرور، ولكن إذا جاوز حده وتعدى طوره يسبب موت القلب لقوله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ».
ومن أسباب قسوة القلب: الجليس السوء فجليس السوء شر وبلاء خطر محدق ونكد مزعج فهو كنافخ الكير إما أن تجد منه ريحا خبيثا وإما أن يحرق ثيابك، كثير من الناس دمرت حياتهم وشقيت أنفسهم وشقيت أسرهم بسبب جلساء السوء ورفقاء الضلال وقرناء الباطل.
ومنها: عدم حفظ السمع وغض البصر، فاستماع الحرام يغطي نور القلب ويطمس بصيرة الفؤاد ومن أعظم أسباب قسوة القلب إطلاق البصر في النظر المحرم قال تعالى: -(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)- [الإسراء/36]، وبين النظر والقلب صلة كبيرة، فإن حُفظ البصر حُفظ القلب، وإن أطلق النظر للبصر أثَّر على القلب وشوش الخاطر -(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ)- [النور/30].
ومنها: عدم بذل المعروف وإطعام الطعام، فمساعدة الناس والرفق بأحوالهم والإحسان إليهم، والرحمة بهم تزيد خشوع القلب، شكى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال له: «إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ».
ومن أسباب قسوة القلب: عدم تذكر الآخرة فنسيان الآخرة ضياع للمرء وظلام للنفس، وقسوة للقلب، فلو أعمل الإنسان عقله، وتفكر تذكر يوم المعاد والقيام لرب العباد، لخشع قلبه وسكنت جوارحه وخضع فؤاده، فالقلوب تقسو حينما تغفل عن يوم القيامة، وعن تذكر أحوال الساعة، وعن التفكر في القارعة والزلزلة والطامة والصاخة والتغابن ويوم الدين ويوم التناد ويوم الحسرة.
-(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)- [المطففين/6].
يوم يبعث ما في القبور ويحصل ما في الصدور يوم تزلزل الأرض زلزالها وتخرج الأرض أثقالها
-(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ*وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)- [القارعة/4-5]
يوم لا يغني والد عن ولده شيئا ولا مولود عن والده شيئا.
-(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ*وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)- [عبس/34-36]
يوم -(تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)- [الحج/2].
يوم يحشر الناس حفاة عراة غرلا.
يوم ينصب الصراط على متن جهنم.
يوم تدنو الشمس من العباد قدر ميل فيبلغ العرق منهم كل مبلغ، فمنهم من يبلغ إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاما.
اللهم حاسبنا حسابا يسيرا أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
عباد الله:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن طاعته أقوم وأقوى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واحذروا أسباب سخط الجبار فإن أجسامكم على النار لا تقوى، واعلموا أن أصدق الحدث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله:
-(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)- [الأحزاب/56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واحم حوزة الدين.
اللهم وآمننا في دورنا وأوطاننا، وأصلح ووفق وولاة أمورنا.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللم اغفر لنا، ولآبائنا ولأمهاتنا، ولأولادنا ولأزواجنا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
-(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)- [الصافات/180-182].