الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فتنص المادة الثانية من الدستور على أن: "الإسلام دين الدولة"، ولا غرابة في ذلك؛ إذ يتعدى المسلمون في مصر نسبة 90% من السكان.
وتنص بقية المادة الثانية على أن: "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وهذا يتلاءم ـ تمامًا ـ مع كون مصر دولة إسلامية، شعبها مسلم.
والدولة الإسلامية هي: دولة تأخذ نظمها وتستمد قوانينها مِن الشريعة الإسلامية في مجالات الحياة المختلفة؛ إذ الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، له أحكامه العامة والتفصيلية التي يجب العمل بها في الدولة الإسلامية.
والدولة الإسلامية ليست "دولة ثيوقراطية"، ـ أي: دينية ـ على النحو الذي عرفته وساد أوروبا في عصر ما قبل النهضة الأوروبية؛ حيث كانوا يعتقدون التفويض الإلهي لرجال الكنيسة وللحكام مِن: الباباوات، والأباطرة، والقياصرة؛ ليتحكموا في مصائر الشعوب بدعوى العصمة والقداسة، أو الإلهام والتأييد من الرب!
فالإسلام لا يعطي الحق لأحد أن يستبد باسم الدين، أو يزعم أنه مفوض مِن الله في التحليل والتحريم، وأن له الانفراد بالحكم المطلق، بل هذا مِن الشرك بالله - والعياذ بالله - باتخاذ العباد أربابًا وطواغيت، قال الله - تعالى- في أهل الكتاب: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) (التوبة:31).
ولما سمع عدي بن حاتم - رضي الله عنه - هذه الآية مِن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان نصرانيًا فأسلم، قال: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ. فَقَالَ: (أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ؛ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ؛ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟). فَقُلْتُ: بَلَى. قَالَ: (فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ) (رواه الترمذي والطبراني واللفظ له، وحسنه الألباني).
ولكن الدولة الإسلامية دولة دينية وفق فهم الإسلام وأحكامه، يحكم الشعب فيها نفسه بنفسه وفق شرع الله – تعالى -، يهتدي بهديه، ويمتثل بتوجيهاته، ويلتزم بما يمليه عليه.
والدولة الإسلامية دستورها الكتاب والسنة ـ كتاب الله - تعالى-، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم-، لا يخرج دستورها عنهما بسن قوانين تخالفهما، قال الله -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء:65).
وقال الله – تعالى -: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر:7)، وقال الله – تعالى -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا) (الأحزاب:36)، وقال الله – تعالى -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا) (لنساء:60).
وقال – تعالى -: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59).
والرد إلى الله – تعالى - بالرجوع إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرجوع إلى سنته المطهرة، قال الله – تعالى -: (إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) (يوسف:40)، وقال – تعالى -: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة:44)، وقال: (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) (الكهف:26)، (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (النور:51). والآيات في ذلك عديدة..
والدولة الإسلامية ليست دولة مدنية؛ فالدولة المدنية دولة علمانية تفصل بين الدين - أي دين - والسياسة، ولا تلتزم بأحكام الدين - أي دين - وتشريعاته.
والدولة المدنية دولة ديمقراطية تعطي الشعب الحق أن يحكم نفسه بنفسه، بما يرى فيه مصلحته دون التقيد بشرع الله -تعالى-، وهذا ينافي الدولة الإسلامية الملتزمة بأحكام الدين وتشريعاته.
ولا يُناسب الدولة الإسلامية أن يقال: "هي دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية"، فهذا تناقض واضح! فكيف هي مدنية تستبعد الدين، ولها مرجعية إسلامية تأخذ بأحكام الدين؟!
إن تقييد الدولة المدنية بكونها ذات مرجعية إسلامية يعني: أن الدولة المدنية تتصف بكونها ليست دينية، وليست إسلامية، فقيدت بهذا القيد، وهذا يكفي في رفض هذا المصطلح ـ مصطلح: "الدولة المدنية"ـ؛ لأنه يناقض الدولة الإسلامية.
فقولهم: "دولة دينية ذات مرجعية إسلامية" هو: محاولة للتوفيق بيْن متناقضين دون النظر في سبب هذا التناقض والتعارض.
والبعض يتمادى فيزعم أنه لا فرق بيْن الدولة المدنية والدولة الإسلامية، من باب: أن السلطة في الدولة الإسلامية للشعب، فهو الذي يختار الإمام ويبايعه، والإمام ملزم بالشورى، وهو وكيل عن الأمة في إقامة الدين وسياسية الدنيا به، والأمة لها الحق في مراقبته ومحاسبته متمثلة في أهل الحل والعقد، فتقومه إذا اعوج، وتعزله إن ظهر منه الكفر البواح عندها مِن الله فيه برهان، وكل فرد في الدولة المسلمة له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالضوابط الشرعية، وله رأيه الحر طالما لا يخالف الشرع، فالشعب يحكم نفسه بنفسه في إطار الشرع الإسلامي، فلا فرق بيْن الدولة المدينة إذن والدولة الإسلامية!
وهذا الفهم هو قفز فوق الحواجز لا يجدي، فأصحاب الدولة المدنية يريدونها تنكر حق الله – تعالى - في التشريع وتعطيه للناس فيما بينهم، فهي عندهم دولة لا دينية صراحة، وذلك باسم العلمانية، والمساواة، والمواطنة، ومراعاة الأقليات.. الخ.
كما أن المسلمين لا يعرفون في فهمهم ومصطلحاتهم الإسلامية كلمة: "الدولة المدنية"، ولا يقرونه بهذا الفهم الغربي؛ فكيف يقال: الدولة المدنية هي هي الدولة الإسلامية؟!
ولماذا التمسك بمصطلح غربي، ومحاولة إدماجه عنوة في فهمنا للإسلام؛ حرصًا على أن تكون "اللافتة أو الواجهة" مقبولة عند غيرنا؟!
والدولة الإسلامية ليست دولة مستبدة ديكتاتورية، تطلق لحكامها العنان أن يحكموا الناس بالهوى والشهوة، وتحقيق مصالحهم وأطماعهم الشخصية على حساب شعوبهم، فكما أنه لا سلطة مطلقة تحتكرها طبقة رجال الدين وعلمائه، فلا سلطة مطلقة لحاكم، أو حزب، أو فئة في دولة الإسلام.
وما وقع في بعض فترات التاريخ مِن ممارسات غير مقبولة مِن حكام؛ فهي من نواتج البعد عن تطبيق الإسلام، وليست نتيجة التمسك به وتطبيقه، ولو راجعنا أقوال علماء الأمة عبر تاريخها حول هذه الممارسات؛ لوجدناهم قد حكموا عليها بمخالفة الشرع، وأنكروا على هؤلاء الحكام أفعالهم، والعبرة بسلامة المنهج لا بالانحراف في تطبيقه أحيانًا.
فإن قيل: فكيف نمنع وقوع الحكام في هذا الاستبداد والظلم والانحراف؟
قلنا: بالنص في دستور الدولة صراحة على وجود الرقابة الشعبية على الحكام والمحاسبة لهم، متمثلة في أهل الحل والعقد الذين تختارهم الأمة بعناية للقيام بهذه المهمة، مع وضع الضمانات بتفعيل دورهم، وإمضاء ما يقررونه في حق الحاكم إن لم يمتثل لحق الأمة عليه.
فإن قيل: فماذا عن المواطنة والاعتراف بالآخر في الدولة الإسلامية؟
فالجواب: إن الدولة الإسلامية تقبل أن يكون على أرضها غير مسلمين يعيشون فيها، ووجود الملايين مِن غير المسلمين يقيمون في مصر عبر القرون الطويلة الماضية وحتى الآن دليل على ذلك، فكل من يقطن في الدولة الإسلامية فهو مواطن، يلتزم بنظام الدولة، له حقوق، وعليه واجبات، وغير المسلم في الدولة الإسلامية له حق العيش والتعلم، وحق السكن، والتملك، والتكسب، له حرية التنقل، والبقاء على دينه، لا يُكره على الإسلام، وله العمل بأحكام دينه في الأحوال الشخصية أو التحاكم فيها لشرع الإسلام ـ إن أراد ـ، ولا يُظلم في ماله وأحواله، معصوم الدم والعرض ـ ما لم يقترف جريمة يستحق بها العقاب ـ.
فإن قيل: فماذا عن الحريات وحقوق الإنسان، والعدالة، والمساواة في الدولة الإسلامية؟
فالجواب: إن هذه العبارات فضفاضة لا ضوابط لها، يستعملها الغرب والدول الكبرى كما هو معلوم؛ لتكون ستارًا يتدخلون مِن ورائه في شئون الدول الأخرى، ويوجهونها كيف شاءوا، والإسلام أحرص النظم على إعطاء الحريات، ومراعاة حقوق الإنسان، وإقرار العدالة، والتسامح، والمساواة وفق ضوابط الشرع.
إن الاختلافات بين المذاهب الفقهية مِن أوضح صور حرية الرأي في الدولة الإسلامية عبر القرون الطويلة، وهذه الاختلافات تتعلق بالدين، ولكن لا يكره أحد على قبول رأي فقهي لا يرضاه، بل من واجبات المجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإبداء النصح والإرشاد، فالدين النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، ولكن الحريات في الإسلام ليست مطلقة، ولكنها مقيدة بألا تخالف الشرع أو تضر بالآخرين.
إن الاختلاف في الرأي سنة الحياة، لا يمكن تجنبه، ولكن الضوابط الشرعية للاختلاف تمنع تفاقمه إلى حد يؤدي إلى انقسام الأمة إلى طوائف وأحزاب، وشيع يقاتِل بعضهم بعضًا، وفوق ذلك كله فللإسلام أخلاقياته التي تضمن مراعاة العدل، والتسامح، وكفالة الحريات.
إن الغرب بدوله المدنية لا يعرف أخلاق الإسلام وضوابطه، وهو يزعم الحريات والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، لذا نراه يعيث في الأرض فسادًا لينقض بأعماله أقواله.
لقد احتل الغرب بقيادة أمريكا العراق بدعوى وجود أسلحة دمار شامل، وتبين للجميع كذب هذا الادعاء، واعترف الغرب بذلك!
فهل أنهى المحتل احتلاله، وأبدى اعتذاره، وأصلح ما أفسده، وقد أباد مئات الآلاف، وحول العراق إلى خراب؟!
ولقد احتل الغرب بقيادة أمريكا أفغانستان، وأزال نظام طالبان بدعوى مساندته لأسامة بن لادن؛ فهل رفع الغرب يده عن الشعب الأفغاني؛ ليترك له حرية تقرير مصيره، أم واصل تسلطه عليه بتثبيت الاحتلال العسكري، وزرع العملاء، وفرض التبعية للغرب على الأفغان؟!
وما زال الشعب الفلسطيني الأعزل ـ بعد أن تخلى عن خيار المقاومة المسلحة؛ طلبًا لأوهام السلام مع إسرائيل ـ يرزخ تحت احتلال صهيوني، يقتل الفلسطينيين ليل نهار، يطرد السكن من ديارهم؛ ليقيم فيها مستوطنون يهود جاءوا بهم مِن أشتات الأرض.
وتُجرَّف أراضيهم الزراعية، وتُضيَّق عليهم سبل العيش بمنع الغذاء، والمعونات، والوقود، والدواء.. كل ذلك دون أن يلتفت أحد إلى الدفاع عنهم؛ مراعاة للعدل، والحرية، وحقوق الإنسان، والمساواة، وتحقيق السلام، بل وتمنع أمريكا بما يُسمى: "حق الفيتو" – أي: الاعتراض- صدور قرار شجب - مجرد شجب- لما تفعله إسرائيل بحق الفلسطينيين في ظل نظام عالمي يدعي الديمقراطية، والأخذ برأي الأغلبية، ثم يسمح لدولة واحدة - وهي أمريكا- أن تمنع صدور قرار شجب مِن مجلس الأمن وإن أيده غالبية - أو باقي- دول المجلس مجتمعين، وطالبوا به، فما أسخف نظامهم العالمي، وما أهون شعوبنا! وإلى الله المشتكى..
أما عن معاملة المسلمين المقيمين في دول الغرب المدنية فكلنا يسمع ويعلم ما يفعله الغرب بهم، فمِن: مَنع المُسلِمات مِن ارتداء الحجاب إلى تقييد حرية التنقل والهجرة، ووصفهم بالإرهاب، وممارسة العنف تجاههم، والإساءة بالسب لرسولهم الكريم - صلى الله عليه وسلم-، ولكتاب ربهم - عز وجل- جهارًا نهارًا، بلا مواربة أو استحياء.
ومِن قبل كانت حروب الإبادة والتطهير العرقي للمسلمين في "البوسنة والهرسك"، و"كوسوفو".. فأين تَعامُل الغرب بحضارته المادية المتقدمة مِن الإسلام بأخلاقه وضوابطه؟!
وبعد ذلك نراهم في الغرب يتباكون ويتصايحون على حقوق للأقليات في الدولة الإسلامية لم تسلب - ولن تسلب- خشية أن تسلب!
ولهذا يريدون أن يضحي المسلمون بدينهم وشريعتهم التي ارتضوها لأنفسهم؛ ليضمن الغرب لهذه الأقليات حريتهم وحقوقهم -بزعمهم-؛ فهل يَقبل هذا المنطق إلا مَن سَفِه نفسه؟!
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
(منقووووووووووووول)